الجمعة. نوفمبر 22nd, 2024

*ذكريات الانتفاضة في برؤوت*

إبراهيم عيسى هدل
hadalcom@hotmail.com

يطلق أهلنا مسمى “برؤوت” باللغة البجاوية على مرسى الشيخ برغوث “مدينة بورتسودان” التي أنشأها الاستعمار الإنجليزي وتم افتتاحها عام ١٩٠٩م لتكون بديلا لميناء سواكن التاريخي على ساحل السودان غربي البحر الأحمر ونزح أهالي سواكن لبرؤوت طلبا للرزق بميناء السودان الجديد ومنهم جدي آدم هدل محمد هيّس (رحمه الله) الذي سكن بديم سواكن (ديم موسى) حيث مسقط رأسي ببيت العائلة الكبير قبل انتقال الأسرة لحي سلالاب شمال بوتسودان بداية السبعينيات من القرن الماضي.

شهدت بورتسودان ارهاصات الحراك الشعبي والمظاهرات ضد نظام مايو وكانت النقابات المهنية تقود ذلك الحراك وعلى رأسها نقابات الأطباء والمحامين، وأذكر مواكب التجمع النقابي برئاسة د.طاهر عبدالرحيم وهو يحمل نعشا رمزيا مغطى بالسواد كتبت عليه عبارة (مايو الأسود الشؤوم) الذي اضرمت فيه النار يومها، ومن التجمع النقابي برز اسم د.عبدالله أبوسن مدير مستشفى بورتسودان والذي ترأس رابطة خريجي مدرسة بورتسودان الحكومية الثانوية العليا (جامعة البحر الأحمر حاليا)،التي صادف التحاقي بها قيام انتفاضة مارس أبريل 1985م، وإسقاط حكم الرئيس جعفر محمد نميري، وتم إقامة يوبيل مدرستي الفضي برعاية رابطة الخريجين في عهد مديرها الأستاذ حسن عبيدي سكرتير عام امتحانات السودان الأسبق.

تفتح وعينا السياسي في تلك المرحلة الانتقالية بقيادة الفريق أول عبدالرحمن سوار الذهب رئيس المجلس العسكري الانتقالي، ورئيس الوزراء د.الجزولي دفع الله، وكانت بورتسودان الثانوية مدرسة قومية حافلة في قسمها الداخلي بطيف سياسي واجتماعي واسع جمع شمل أقاليم البلاد المختلفة، وما زلت أذكر حلقة إخوتنا طلاب جنوب السودان تحت شجرة ظليلة وهم يستمعون لإذاعة الحركة الشعبية بقيادة العقيد جون قرنق والتي كانت تبث من أثيوبيا، بينما ينفتح بقية الطلاب بالاطلاع على أدبيات الأحزاب من أقصى اليمين لأقصى اليسار، ولعل ارتباطنا بمرشد الصف مدرس التاريخ الأستاذ صديق المنتمي لحزب الأمة جعلنا متعلقين بشعبة التاريخ والمناقشة مع أساتذتها وعلى رأسهم رئيس الشعبة الأستاذ أبوالقاسم (اتحادي) والأستاذ حسين المليك (يساري) والأستاذ بدوي الطاهر (مستقل) والأستاذ مختار جبريل (مستقل).

في تلك الأيام لم نعرف أجهزة الموبايل ووسائل التواصل الاجتماعي فكان السجال السياسي يتم من خلال اللقاء المباشر أثناء الفسح المدرسية، وفي أركان النقاش أو بحضور الليالي السياسية التي تقيمها الأحزاب، وقد تسنى لي حضور معظم هذه الليالي بالساحة الشعبية والتي أقام بها الحزب الاتحادي الديمقراطي ليلة ختمها بخطبة رصينة عصماء للأديب والخطيب المفوه الشريف زين العابدين الهندي الأمين العام للحزب، وكذلك أقام الحزب الشيوعي ليلته بنفس الساحة والتي خاطبها الأستاذ محمد إبراهيم نقد وأذكر أنه توقف عن الاسترسال بالخطاب عند سماعه لرفع آذان العشاء من جامع باشيخ المجاور للساحة الشعبية، فنال تصفيق الجماهير واعجابهم، ولعلها الليلة الوحيدة التي أوفى منظموها بتوفير المواصلات لأحياء بورتسودان النائية.

واستضاف نادي الخريجين ليلة حزب الأمة التي خاطبها السيد الصادق المهدي مرتديا جلباب الأنصار القصير (على الله) وقدم محاضرة رصينة عن تاريخ الصراع مع نظام مايو ومشروع حزب الأمة القومي لمستقبل الدولة السودانية وفقا لبرنامج نهج الصحوة الإسلامية، وكذلك نظمت الجبهة الإسلامية القومية بقيادة د.حسن عبدالله الترابي ليلتها على مسرح نادي الخريجين وتجلت فيها زعامة د.حسن الترابي ومقدراته الفكرية والخطابية وتمكنه من شد انتباه الجمهور مركزا بمحاضرته على أهمية بقاء أحكام الشريعة الإسلامية وتنقية ما شاب تطبيقها من تشوهات في العهد المايوي.
حظي جيلنا بمعاصرة زعماء كبار ورجال دولة من الوزن الثقيل علما وثقافة وكاريزما القيادة، ـ رحمهم الله ـ وكانت الأحزاب السياسية قوية ومتماسكة لم تعتريها عوامل التجريف والتعرية كما حدث عقب ثورة ديسمبر ٢٠١٩م التي صعد لسدتها النشطاء والهواة عديمي الخبرة والحنكة السياسية الذين لم تتجاوز تجربتهم ما ألفوه أيام الدراسة الجامعية في اركان النقاش، حيث المغالطة ولغة “البل” لإفحام الخصوم دون بعد فكري عميق، وبلا زاد معرفي كافي بالتاريخ والجغرافيا السياسية والدراسات الاستراتيجية، مما سهل انقيادهم لقوى الهيمنة الإقليمية والدولية وسفاراتها وممثلي البعثات الدولية، ومنهم من قدم أوراق اعتماده لهؤلاء السفراء والمبعوثين الدوليين لتنصيبه زعيما لشعب حر، وقائدا لدولة مستقلة ذات سيادة!!
لعل من أبرز الدروس المستفادة من تجربة الانتفاضة هي تخلي الأحزاب عن الصراع على السلطة الانتقالية والمحاصصة مع العسكر، وتقديم الكفاءات الوطنية لقيادة المرحلة الانتقالية، والبعد عن محاولات الاستئثار والمغالبة، فالسودان وطن يسع الجميع.

About Author

 للإنضمام الي إحدي مجموعاتنا علي الواتس اب اضغط علي الروابط

صحيفة السياسي (1)

صحيفة السياسي (2)

صحيفة السياسي (3)

صحيفة السياسي (4)

صحيفة السياسي (5)