السبت. يوليو 27th, 2024

العصا بين التوكؤ والمآرب

( هذي رؤاي)..

  عبد العزيز عبد الوهاب 

إذا كان الهش أو ( الهس ) كما يقرأه البعض ، معلوما وأقربه هش (السعية) كما أبدعه الأنبياء توسلا لسياقة الرعية وإرشادها بإحسان ، فإن المآرب تتراوح بين الإعجاز كما في عصا موسى عليه السلام وتسمى ( ناحاش) بالعبرية ، و دقة الإنجاز في الإلتقاط و التصويب والصحبة .

إنها العصا، أو العكاز أو المنسأة ( عصا نبي الله سليمان) ، أو الصولجان أو القسقاسة ، المخبط، النفعة ، السلاح ، العتلة أو الهادية . وغيرها من عشرات الأسماء التي أطلقت على العصا على مر العصور .

وقد سمى الناس مواليدهم ذكورا وإناثا إعجابا بالعصا ، مثل طلحة ومحجن وطرفة وخشاب والخيزران ( والدة الخليفة هارون الرشيد) .

ووردت العصا في
القرآن الكريم في نحو
12 موقعاً وهي : سنة الأنبياء وزينة الصلحاء والخطباء في المساجد، وكان نبينا ( ص) يحمل عصاه ( المحجنة) أينما ذهب.

علاقة الإنسان بالعصا قديمة قدم الإنسان نفسه ،حيث استخدمها للنبش في باطن الأرض بحثا عن نبات أو شيئا يأكله ، ثم ازدادت حاجته إليها ليصطاد بها الحيوان ويقطف الثمار العالية .

وتوثقت العلاقة مجددا فكانت دلالة للقوة والسلطة والفخر ورمزا دينيا مقدسا تتم بها الطقوس الدينية في المعابد القديمة ، وبها يتم تتويج الإمبراطور الجديد ويتبختر ، واعتبرت العصا أداة للذكورة ولم يستحسن حملها عند النساء والعصا تطلق أيضا على الجماعة من الناس ، يكونون على توافق وانسجام.

تمثلت معجزة النبي موسى عليه السلام في أنه عندما ألقاها تحولت إلى حية تسعى
و عند بعثه للفرعون كانت تماشيه وتحادثه؛ وكانت آية على صدقه ، حيث إلتقفت عصاه ما صنع سَحَرته وعند خروجه من مصر كانت وسيلته لشق البحر، ولما عطش قومه، سقاهم بها حيث شق بعصاه اثنتا عشرة عيناََ.

و يضرب بها الأرض فتخرج له ما يأكل ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فتغصٌنت وأثمرت ، وإذا عطش أدلاها فطالت وصارت كالدلو فيستقي ، وكانت تضيء بالليل و تحارب عنه الأعداء .

عبيد العصا ، وصف أطلقه المتنبئ على فئة من أراذل الناس نكاية بهم لإنعدام فائدتهم وقلة حيلتهم ، أما أشهر شعره فتمثل في ذمه لكافور الإخشيدي حيث وصفه بالملك الرعديد ، و كان أسود اللون سطا على حكم مصر بعد أن غدر بسيده ،ولما توترت علاقته بالمتنبئ ،بعد طول صفاء وتعهٌد ، تفتحت أسارير الشاعر الفذ نحو أكثر الصفات والألفاظ المذمومة فصاغ منها ما عُدٌ من أشهر شعر الذم في ديوان الشعر العربي ومنه قوله :

لا تشتري العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
لا يقبض الموت نفسا من نفوسهم
إلا وفي يده من نتنها عود

فأطارت تلك الأبيات النوم من عيني كافور ، فأرسل رجاله للقبض عليه وإسكات صوته للأبد بقتله ، وهو ما وقع فعلا . وقد حدث ذلك بعد أن طارت الأبيات عبر الأثير ورددتها الدنيا بأجمعها . حيث قتله قطاع الطرق بمعاونة حراسه العبيد بتدبير من كافور .

صناعة العصا مهنة يتوارثها الأجيال وبعضهم يدهنها بالحناء والسمن لإكسابها البريق واللمعان كما يضاف لرأسها مقابض من العاج والفضة .

أما أجودها فتستخرج من شجرة العتم والأبنوس والخيزران ، التي تشتهر به الهند و الصين ومصر التي لايكاد يخلو بيت منها وهي رمز للفتوة والمرجلة .

وتمثل ( عصا اكسليبيوس) مع الثعبان الملتف حولها ، اتخذه قدماء اليونانيين منذ آلاف السنين، شعارا للطب والتنجيم وتم اعتماده دوليا. واكسليبيوس هو ابن الإله ( ابولو) تخصص في علاج المرضى باستخدام الثعبان ،وترمز العصا إلى مجموعة من النجوم ، وهي الرمز الثالث عشر في الأبراج الهندية .

اتخذت (العصا البيضاء) شعارا للمكفوفين في العالم . أما عصا الترحال فكانت رفيقة المسافر البدوي أينما ارتحل ، وقولهم : ألقى عصا الترحال يعني استقر واستراح بعد طول تسفار . وشق عصا الجماعة أي فارقهم ، والعصا لمن عصى أي تأديبه .

الشاعر الصديق عبد القادر الكتيابي له ديوان ( هي عصاي) واستمد الدلالة والإسم من قصة عصا موسى . يقول : إن هذا الشعر هي عصاي التي أتوكأ عليها .. به أهش وأشدو وأترنم .

أما توفيق الحكيم ، فقد اتخذ العصا صاحبة له منذ صباه حيث أصدر كتابه ( عصا الحكيم) وهي مجموعة مقالات فكرية واجتماعية عن حياة المصريين .

وشغف الحكيم بعصاه ، يحادثها فتلاطفه ، مستوحيا مجمل فكرته كذلك من عصا النيي موسى . ومن ذلك مثلا أن عصاه قالت له متعجبة من عدم صلاح الحال ! (يخيل إلي أن فى مصر خبيرا عبقريا، مهمته الدقيقة: أن يضع كل شىء فى غير محله) .

ثم أتى زمان فقدت فيه العصا بريقها وبراءتها وجزالة رمزيتها وحفاوتها بحامليها. فاستخدمت كأداة لتهريب المخدرات عبر تجويفها ، وكسلاح ناري . فبات لا يتم شحنها في الطائرات قبل فحصها. ومنها أيضا العصا الكهربائية التي تستخدمها قوات الأمن لضرب المتظاهرين وصعقهم بشحنات كهربائية غير مميتة فانتقلت من كونها رمزا للحكمة والوجاهة إلى أداة للقمع والقهر في استغلال ، ربما يكون شاطحا لمزايا المآرب ونبلها.

      ودمتم

About Author

 للإنضمام الي إحدي مجموعاتنا علي الواتس اب اضغط علي الروابط

صحيفة السياسي (1)

صحيفة السياسي (2)

صحيفة السياسي (3)

صحيفة السياسي (4)

صحيفة السياسي (5)