الاسراء والمعراج ذكرى وتأمل
د علي الكرار هاشم محمد
رحلة الإسراء والمعراج واحدة من الحوادث الكبرى والأمور العظيمة التي حدثت بمكة المكرمة، وهي من المعجزات التي يكرم الله بها رسله ويثبتهم أمام طوفان التكذيب وجيوش أعداء الحق، وقد جاءت هذه الحادثة في وقت عصيب وعقب أحداث كثيرة واجهت الرسول صلي الله عليه وسلم، ثم كانت بداية لتشريع وعبادات تستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
برغم مرور أكثر من عشر سنوات علي الدعوة، لكن ظل الوثنيون علي كفرهم وعنادهم ورفضهم للدين ثم صدهم للناس عن الإتباع وقبول الدعوة أو حتى مجرد التفكير في الاستماع والنقاش المفيد، ويتطور أمر الرفض كل حين حتى يصل إلي المقاطعة والمواجهة، فيتعرض الرسول الكريم للضرب والاهانة ويصبح مواجها بكل خطر هو وأسرته ليحاصروا داخل منطقتهم (شعب بني هاشم) وهي من أصعب مراحل الكفر والتكذيب، لهذا يهاجر البعض إلي الحبشة، ويعود بعض المسلمين الجدد إلي مناطقهم في انتظار الفرج، لكن الرسول الكريم مأمور بالتبليغ ورسالته تستهدف العالم كله إنسه وجنه فهل يبقي رهينا لسطوة كفار مكة.
في هذا الجو من التربص بالدعوة الوليدة ومحاربتها وحصارها، تنتقل إلي الرفيق الأعلى السيدة خديجة زوجة الرسول وأم أولاده، السيدة خديجة رضي الله عنها هي جانب السعادة والطمأنينة والراحة بل هي البيت السعيد بأطفاله ومشاعر الحياة بكل ألوانها، وكانت خديجة بتاريخها الباذخ وسبقها في الإسلام ودعمها المستمر تشكل الحماية والأمن عند الرسول الكريم وها هي تودع الحياة تاركة مساحات من الفراغ وسط أجواء مكة، ثم لا تلبث أن تتجدد الأحزان بوفاة الرجل الذي حمل عبء الدفاع عن الرسول في وجه الطغيان الوثني، إنه عمه أبو طالب، ذلك الذي حماه ورعاه وظل يباشر تأمينه بنفسه حتى أماكن نومه وتنقله من بيت الي آخر خوفا من غدر الأعداء، أبو طالب بمكانته وشرفه في مكة يرحل ليجد الرسول صلي الله عليه وسلم نفسه مكشوف الظهر أمام أعداء الدعوة، يحزن الرسول الكريم كثيرا خاصة وعمه يرحل دون أن يسلم ويقر عينه بنطق الشهادة، لكن مسيرة الأنبياء قاصدة لرحاب عليا وآفاق فسيحة فلا تعرف التوقف ولا يضيرها نقص العدد ولا قلة الزاد.
وذات يوم ينادي الرسول صلي الله عليه وسلم لابنه بالتبني (زيد بن حارثة) فيتسللا من مكة بلا دابة ولا متاع ولا زاد في اتجاه الطائف، تلك المدينة التي تشمخ بجوار مكة بقبائلها وبساتينها ومجدها، أليست هي المدينة التي تمني الوثنيون أن لو أتي منها الرسول في قولهم (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم) فذهب إليهم ومكث بينهم عشرة أيام يدعوهم ويطلب منهم الحماية ، لكنهم تجاهلوا وكذبوا، فلما يئس منهم طلب كتمان أمر الزيارة، فأبوا ذلك بل زيادة في الفجور أغروا به الصبيان والسفهاء فرجموه بالحجارة وضربوه حتى أدموه لو لا حماية الله ودفاع زيد عنه. خرج الرسول الكريم من الطائف وسط أجواء التكذيب والكفر ليفاجئه ملك الجبال عارضا عليه أشد أنواع الانتقام من المكذبين، لكن قلب الرسول كان قد امتلأ ايمانا ورجاء وأملا في خير الأمة لهذا فقد تمني أن يستجيب القوم أو ربما تستجيب من بعدهم الأجيال وفي كل خير. ويدخل الرسول صلي الله عليه وسلم مكة تحت جوار الزعيم (المطعم بن عدي) وتلك أعراف حفظها العرب، وقد حفظها الرسول الكريم للرجل حتى قال حين وقف علي أساري بدر (لَوْ كَانَ المطعم بن عدي حياً، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لَتركتهم له)، ويبقي في مكة مرة أخري يعالج دعوته بالحكمة ويقابله القوم بالقسوة والسخرية.
وذات ليلة وبينما الرسول صلي الله عليه وسلم نائما، أتاه ملكان فذهبا به الي البيت الحرام حيث شقا صدره الشريف وغسلا قلبه بماء زمزم وملآه بالحكمة والأيمان، ثم أتاه جبريل بدابة هي أعلي من الحمار وأدني من البقل يقال لها (البراق) فركبها من مكة المكرمة إلي بيت المقدس في فلسطين وهذه هي رحلة الاسراء، وهناك جمع الله له الرسل فصلي بهم ثم حمله جبريل وصعد به السماء في رحلة المعراج.
عرج به صلي الله عليه وسلم وكان جبريل يستفتح عند أبواب كل سماء فيفتح لهم ويرحب بالنبي الكريم، ثم يسلم علي الأنبياء في كل سماء بحسب درجاتهم حيث وجد أباه آدم في السماء الأولي، ويحي وعيسي في الثانية، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة ادريس، وفي السماء الخامسة هارون، وفي السادسة موسي وفي السماء السابعة إبراهيم عليهم جميعا السلام. ثم يصل إلي سدرة المنتهي والبيت المعمور، ثم علا فوق كل ذلك وخاطب الله تعالي وهناك فرضت عليه الصلاة، ثم رأي الجنة والنار و( لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ) رأي الكثير مما نقلته كتب السيرة، ثم عاد بنفس الطريقة ليكمل ليلته في مكة، وينطلق مبشرا ومحدثا بما كان له.
دخل صلي الله عليه وسلم الحرم بثقة الأنبياء وإيمانهم الذي لا تهزه أكاذيب البشر، دخل الحرم فكان هناك كالعادة الطاغوت الأكبر أبو جهل، ذلكم الذي جعل من نفسه العدو الأول للدعوة، يمنع الناس ويصدهم بكل السبل ويتابع الرسول مثل ظله لا يكل ولا يمل، فاقترب من الرسول وسأله بخبث فأخبره الرسول مباشرة، فقال له بفرح غامر أضمره لحاجة في نفسه، وهل أنت مخبر الناس إذا جمعتهم لك، قال نعم فنادي أبو جهل في الناس، فحدثهم الرسول صلي الله عليه وسلم بثقة الأنبياء وعبارات الصادقين وحكي لهم كل تلك الليلة، فبعضهم طالب ببعض البيانات، وبعض سخر وضحك، وأرتد بعض المسلمين, لكن بعضهم ذهب بالخبر لأبي بكر الصديق عسي أن يترك صاحبه حين يسمع هذا الخبر العجيب، فاذا بالصديق يردهم خائبين ويحدثهم حديث المؤمن الذي لا يتضعضع إيمانه أمام الأكاذيب والأراجيف والاشاعات.
كانت الإسراء والمعراج رحلة معجزة في تفاصيلها وشكلها، معجزة في زمنها ومدتها، وحري بها أن تكون كذلك فهي أمر رباني سماوي لا علاقة له بعالم البشر، ومن هنا كانت اعجازا وكان آية بينة، خاصة والأمر تم للرسول الكريم روحا وجسدا وليس مجرد رؤية منامية تحدث لأي انسان.
ثم إن هذه الرحلة أتت للرسول الكريم عقب مراحل عديدة من الحزن ففيها له التسرية، فقد شاهد المعجزات، وقابل اخوانه الأنبياء فحدثهم وحدثوه، وفيها فرضت الصلوات بتفاصيلها الحالية لندرك مدي أهميتها وعظيم شأنها فهي بخلاف بقية الفروض والأوامر ظلت أمرا تم في السماء، والرحلة هذه زادت الصف المسلم في مكة تماسكا وقوة حين تبين مدي الصدق الذي واجه به الرسول كفار مكة، إضافة لأنها أيضا قامت بتنقية الصف من الضعفاء الذين انهزموا سريعا وارتدوا.
إن رحلة الاسراء والمعراج بلا شك واحدة من المعجزات الإلهية التي حدثت لرسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم، وهي للمؤمنين تبقي كواحدة من الأمور المسلم بها تحدث كما الأمر الرباني (كن فيكون)، وقد اختلف أهل السير والمؤرخون في توقيتها هل تمت قبل الهجرة بثلاثة سنوات أم سنتين أم سنة واحدة وهي المرجح، كما اختلفوا في شهرها بين ربيع الأول والأخر ورجب وهو الذي عليه الناس اليوم، وكل ذلك لا يؤثر في حجم الرحلة وعظمتها والايمان بها وبكل ما دار فيها.
About Author
للإنضمام الي إحدي مجموعاتنا علي الواتس اب اضغط علي الروابط