السبت. يوليو 27th, 2024

ظاهرة غريبة “dop” تفقدنا أشياءنا و تعيدها لنا بنفسها !!

 

بقلم/ حامد النصيح

نلاحظ في بعض الأحيان، وبشكل غريب ومفاجئ، إختفاء غرض ما من أغراضنا المتروكة في مكان محدد، ونبذل كل الجهد في البحث عنه ، هنا وهناك، دون جدوى، ولكن بعد وقت من الزمن.. أثناء أو بعد توقف البحث، نتفاجأ بالعثور على الشيء المفقود وقد عاد إلى مكانه الذي يُحفَظ فيه عادة أو أنه عاد إلى مكان معروف، كان من المفترض أن محاولات البحث الحثيثة التي بُذِلت للعثور عليه كانت به.
ولو لا أن واقعة حقيقة حدثت معي ( أحكيها لكم ) ما كنت لأصدق بما يعرف بظاهرة ((dopوهي اختصار لـ (Disappearing Object Phenomena) وتعني ظاهرة اختفاء الاشياء وعودتها فجاة !..
أمتطيت ظهر (لوري سفنجة) يسمى مجازاً بـ (بص سفري) في رحلة من عطبرة الى حلفا الجديدة، عن طريق (أم شديدة) البري الواقع على تخوم نهر عطبرة من الناحية الغربية، حيث تستغرق الرحلة تقريباً ما بين 4 الى 5 ساعات لتصل لمدينة حلفا الجديدة، ولحرارة الجو وقساوة الرحلة فقد كنت أرتدي من الملابس أخفها وهي عبارة جلابية، فوضعت القروش في جيب الساعة تفادياً للنشالين، حيث كان البص شديد الازدحام وكان بعض الركاب مشمعين (واقفين على حيلم) وآخرين جلسوا في الممرات بين الركاب اصحابين المقاعد.. وكانت لا توجد تذاكر، فيتم تحصيل الأجرة مباشرة بعد ان يقطع البص مسافة خارج مدينة عطبرة وفي الطريق، تتدلى (أرجل) الكمساري وقد بدأ ينزل من رأس البص للداخل لتحصيل الآجرة، والباص لازال منطلقاً يرسل زئيره الحاد ويجد السير الذي يأكدوه الغبار الكثيف الذي يلاحقنا منذ بداية الرحلة، لما جاء دوري مد الكمساري لي يده (هات الأجرة) ، داير أطلع القروش ولكن اندهشت حين وجدت الجيب فارغ من كامل المبلغ، وبعد إجراء بحث سريع وشامل لجميع نواحي الجلابية تأكد لي بما لا يدع مجالاً للشك انني قد فقدت المبلغ أو سرق مني!!.
والكمساري يقف لي بالمرصاد يرمقني بنظرات حداد كلها شك وريبة، وانا منزعج أهمهم بكلمات تدل على فقدي المبلغ، بعدها بدأ صوته يرتفع ويوجه كلمات جارحة، وأنا بالمثل قد ارتفع صوتي تفادياً لواقحة الكمساري، قلت له: يأخ مش حقك ده ح تأخد بس نصل حلفا، رد علي في نفاد صبر ضاغطاً على الحروف والكلمات لتخرج مزيجاً من التهديد واللؤم قائلاً: نوعكم ده انا عارفو كويس، بعدها حصل هرج ومرج بين الركاب داخل البص حين مد يده لرقبة جلابيتي ليخنقني، مع هذا الهرج والمرج أضطر السائق للتوقف ليستبين الحاصل، أقف البص ونزل، وجاء في الخلف وبدأ يسأل.. في شنو؟ الكمساري قال ليهو: الزول ده ما داير يدفع، ألتفت السائق نحوي ، فقلت له: فقدت قروشي ، ولمن أصل حلفا ان شاء الله أديكم حقتكم ، قال: لي يعني نشلوك؟ قلت له: والله ما عارف، لكن يمكن ضاع، المهم السواق ألتفت على الكمساري، بعد أن أستشعر شئ من الصدق في كلامي، فقال مخاطباً الكمساري: الزول ده خلاص خليهو تاني ما تسألو، انصاع الكمساري لأمر السواق ولكنه ظل يتزمر وهو يجمع أصابع يده على شكل (قطية) يتوعدني توعداً ممزوج بشئ من الهزيمة تفصح عنه نظراته.
واصلت الرحلة طريقها، وأنا في حيرة من امري كيف فقدت القروش رغم حرصي الشديد عليها، كما انني بحثت في في كل تلافيف الجلابية الظاهر منها والباطن دون جدوى، مع فقدان الأمل أوقفت البحث تماما، ولكن الأفكار واشباح الرؤى تطاردني وأنا ابذل الجهد في طرد تلك الهواجس ومقاومتها لكي أبدو طبيعياً ولكن هيهات.
بعد مضي وقت طويل والبص يصارع في (الدقداق)، يلاكم فروع الأشجار التي تعترض طريقه ويصرع كتل الجذوع المتساقطة على أطراف السكة، ومن تحته عجلاته تعيقها الرمال والاتربة الناعمة (الفرناغة) وتحد من سرعته، ولكن رغم كل هذه المعاناة التي تعترض الرحلة نصل لـ ( أم شديدة )، وتوقفنا أمام المقاهي التي يطلق عليها أصحابها (كافتريات) تيمناً بالخرطوم وبعض مدن السودان الكبرى، وصلناها، وانا في حالة يرثى لها، معدم.. جائع.. اشعر بشئ من الضياع والفقد، ولكن بينما انا كذلك، إذا بأحد الركاب يقف أمامي حاملاً صحنا طعاما عبارة عن طبق فول وكباية شاي، ووضعها قدامي في الطاولة، قلت له ده شنو؟ قال لي مش انت الزول القروشو ضاعت في البص ؟
قلت : ايوه ، فوضع (صحن الفول مغطى برغفتين وكباية شاي) أمامي، كدت لا اصدق ما يحدث امامي وكل هذه الخيرات والنعم تطرح فجأة أمامي، ترك الرجل هذه المائدة الفاخرة لسعادتي وغادر قبل أن يسمع كلمة شكراً ، ولكن في هذه الاثناء هبت رياح هوجاء (كعادة أم شديدة) على مدار العام فأم شديدة حقيقة هي اسم على مسمى، رياحها الهوجاء تلك تركت نص صحن الفول عبارة عن رمال وأتربة، ولكن ــ الحمد لله ــ لحقت أقتطع لي منه لقيمات قبل ان تهب عاصفة أخرى أعنف ، أما الشاي فحدث ولا حرج حيث احتل التراب نصفه الكباية الفوق ولكن لــ (خرمتي) الشديدة للشاي، اضطررت أن أزيح ما علق به من تراب جانباً لأشربه وأرتشف بعضع رشفات رغم أنه مؤهل ليكون أي شيء آخر غير الشاي.
بعد أن هدأت العاصفة وقد أخرتنا عن مواصلة الرحلة أكثر من ساعتين، فحل المساء فصلينا المغرب والعشاء جمعاً وقصراً للعشاء، بعدها تحركنا صوب حلفا، وفي منتصف الطريق وقد اشتد ظلام الليل، توقف البص امام مجمع تجاري عبارة عن دكاكين مبنية بالجالوص وامامه فرندارات معروشة بالقش وعزارى الفوانيس ضوئها لا يكاد يبين ترسله في خفر وحياء لا يستطيع معه مقاومة تلك الظلمة التي تضرب المكان ، نزل السائق وخاطبنا قائلاً: يا جماعة ح نبيت هنا، والصباح نواصل الرحلة، عشان السحب دي ممكن تمطر في اي لحظة.
المهم نزلنا منصاعين لتعليمات السائق بالمبيت هنا، وفي غمضة عين هرع كل الركاب صوب مكان العناقريب وستأجر كل واحد منهم عنقريب لنفسه، أما انا (الذي ليس معه شيء) أضطريت أفترش الأرض متوسداً شنطتي ، وحين هدأ الركاب، ولزموا عناقريبهم ، جاءني صاحب العناقريب يمشي حتى في تلك الظلمة تستطيع ان تستبين ضخامته وقوة شكيمته يحمل عنقريب أو قل ربع عنقريب (مكعوج) يلوح به كاللعبة، قال: لي قوم يا زول أرفع رأسك هنا، بدل ما تقرصك عقرب تجيب أجلك، قلت ليهو: لكن ما عندي حق العنقريب، قال لي ما مشكلة أحسن من مما تلدغك حية ولا داهية تلحقك امات طه ، قوم، ورمى بجانبي العنقريب الذي لا يؤثر فيه الرمي بشيء رغم عصعصته ونتؤاته إلا ان حقيقة حباله التي نسج منها كانت من القِد (الجلد)…
الآن وقد فلق الصباح ولا ادري كيف استطاعت خيوطه ان تسلل خلال ظلمة ليلنا هذا!!.. الصباح رباح نفض الركاب التراب العالق على جباههم السمر ، وبدأ الباص يتذكر مهمته فشخر وزأر وإنطلق متسلقاً تلك الصُعد في تحدي متجهاً صوب قرى حلفا الجديدة وضواحيها، ووصلنا والوصول (أحمد)، وأنا أحمل شنطي ذاهباً مغادراً موقف البصات ، لمست يدي جيبي بالصدفة، وأكادُ (الكابلي)، وأنتم (سادتي) من حقكم لا أن تصدقو، لأني وجدت الجيب منفوخ حبة ، تحسسته أكثر فأكثر، وجدت أن به شيئاً ما ، وبأصابع مرتعشة أدخلت يدي في جيبي وإذا بي (والله والله)، أجد المبلغ الذي طاع مني راقد في جيبي كما هو لم يمسسه سوء، وأنا بين ذهولي وخيالي كدت لا ابالي ليس لوجود المبلغ، بل لمسألة كيف عاد المبلغ للجيب مرة أخرى؟ الآن لا أملك إلا آمن وأصدق بما يعرف بظاهرة dop.. ولم تعد هناك قوة بعد الآن تستطيع ان تقنعني انه لا توجد مثل هذه الظاهره.. فــ dop الآن ماثلة امامي بلحمها وشحمها.. وقد اعادت لي كل ما فقدت جزاها خيراً..
وبعد ان قطعت مسافة مبتعداً من موقف البصات هرعت إتجاه الموقف مرة اخرى ولكن للاسف وجدت البص الذي كنت به قد أنزل الركاب وغادر لجهة لا أعلمها ، فسألت عنه أصحاب مكاتب الحجز وبعض (الكمسنجية)، فقالوا لي : البصات الجات من القضارف وكسلا وعطبرة والقربة كتيرة يا زول ما بنقدر نعرف ليك ياتو بص البتقصدو.

أخيراً لا يسعني إلا أن أشكر ظاهرة (Dop) ، التي وفرت لي ( رحلة، و وجبة، وإقامة) مجااااااانية، واعادت المبلغ لمقره الطبيعي ومثواه الآخير في (جيبي).

About Author

 للإنضمام الي إحدي مجموعاتنا علي الواتس اب اضغط علي الروابط

صحيفة السياسي (1)

صحيفة السياسي (2)

صحيفة السياسي (3)

صحيفة السياسي (4)

صحيفة السياسي (5)