السبت. يوليو 27th, 2024

القرية تريد أن تتطهر

قصة قصيرة

 

بقلم : حامد النصيح

 

مر موكب العمدة المهيب بجانب الملعب والصبيان (يتعافرون) بينهم (كرة شراب) يتقاذفونها في سعادة تعلو، كلما علا الغبار الذي يثيرونه من حولهم، رفع العمدة عصاه في حدة ـ وهو يلمح “الخضر” يلعب مع الصبية ـ انصاع الصبية لإشارة العمدة بالتوقف، فتوقف اللعب.

إخترق صوت العمدة، منتهراً تلك التماثيل التي تجمدت على أرجاء الملعب، ورفع يده مشيراً الى “الخضر” أن يأتيه ، أقبل الخضر نحو العمدة مندفعاً كما البرق، عله يفرغ شحنة الرعب التي ملأت نفسه، فوقع تحت أرجله ، فسارعت الحاشية برفعه من على الأرض، لينتهره العمدة قائلاً له:” من هنا و رايح.. لعبك يكون هناك……. مع البنات … فاهـم ؟”.

صعقت هذه الكلمات هذا الكائن البض، وإنفجار الصبية من حوله بالضحك زاد من ذهوله وضاعف من إرتباكه، دارت حوله الأرض، وضاقت عليه بما رحبت، تداخلت الأصوات حوله وأختلطت في ذهنه، خُيل إليه والكل يحيط به، أنه في حلقة “الـزأر” التي يتساقط في وسطها بعض الناس مغشياً عليهم، دفعته قوة الذعر التي تملكته، أن يفر من أمامهم كما تفر الفريسة من صائدها.

جاء أبوه مسرعاً يركض نحو الجمع، وهو يعلم السبب جيداً، فوقف.. وخاطب العمدة قائلاً:” يا العمدة.. يا عمدة..الولد لسع صغير، إن شاء الله يكبر و صوتو يتصلح.. واأ… ” أنتفض العمدة في غضب وغادر المكان وهو يردد “جاب للبلد العــار”..

كانت تلك اللحظات لحظات فارقة في حياة “الخضر” ذا الستة عشر ربيعاً، والعمدة يعلن أمام الملأ طرده من رحمة المجتمع، بسبب صوته الرقيق ، الذي يشبه صوت الفتيات، تبعثرت آمال الفتى وقد نُقض أمام عينه غزلاً ظل ينسج منه أثواباً يحتفظ بها لأيام البطولة، التي ضرب معها موعداً في العشرين من عمره، و إنهار أمام عينيه تاريخاً من الأحلام الجميلة كان ينتظر أن يحققها في كنف القرية ويبذ بها أنداده .
أصبح يُنادى من كبار القرية بـ “الخضير.. ومن صغارها ..بـ “الخضيرة”.. ، وتعددت وسائل الطرد وأمعن الجميع في إقصائه ، وصُنف الى صف البنات ، أغروا به الصبية وسفهاءهم فأصبح مُطارداً هائماً في القرية على وجهه يترقب، عندها لم يجد والده بد ، إلا أن يلزمه بعدم مغادرة الساقية.. (وأن أكله وشربه سيأتيه هناك في الساقية).
إنعزل الصبي في ساقية والده على ضفة النيل ، ولا أحد يتجرأ من القرب منه لأن الكل يخاف من العمدة إذا ما سمع بأن أحداً زاره ، وفي محنته تلك لم تعاطفاً من إي أحد، إلا من فاطمة تلك الصبية التي نشأت في بيت العمدة، وتقاسمت مع الخضر مراتع الطفولة المبكرة، وشاركته اللعب كثيراً ونسجا سوياً كثيراً من الذكريات حتى شعرا يوماً أنهما كياناً واحداً، توشحت فاطمة ولبست ثوب الحزن ، وبكت لا لرقة صوته، بل لرقة حاله، وانكساره ، وهوانه على الناس، ورغم الحرب التي أشعلها الجميع ضده، والحصار الخانق، المضروب حوله، إلا أن تعاطف فاطمة ظل يزداد كلما ما أمعنوا في إذائه، فكانت تزوره خلسة على أطراف الساقية، باعثة فيه كثيراً من الأمل، حاملة له بعض إحتياجاته، مزودة إياه بأخبار القرية التي كاد يقتله الحنين لمراتعها.

ولما قوي عوده وأشتد ساعده، أظهر بطولات رائعة وخلقاً نبيلاً، فكم من غريق بادر إلى إنقاذه، حين كانت تقف الجموع على ( القيف ) صارخة لطلب منقذ لأحد الغرقى، فيندفع الخضر في الحال بحكم قرب الساقية التي إتخذ منها مأوى من الشاطئ، وينقذ الغرقى، فلم تشفع له تضحياته تلك عند أهل قريته التي ألبها العمدة ضده، فظل منبوذاً ، وحتى مكوثه الدائم وإنعزاله بجوار الساقية.. لم يرض العمدة وبعض أهل قريته، واستمر الحال على هذا المنوال والخضر في تلك العزلة المضروبة عليه بأمر من العمدة وحاشيته.

ولكن مصائبه لم تنته ، فقد بدأ الأمر يزداد عليه سوءاً، حين أصبحت القرية تتهيأ لإستقبال وفود من القرى المجاورة لمشاركة العمدة الإحتفال بزواج أحد أبنائه ، عندها قرر العمدة ومن معه أن يدسوا هذا الصوت الفاضح تحت (التراب)، خوفاً أن يخرج ويشيع عارهم، فتتسامع به القرى من حولهم، و لما كانت فاطمة مجندة نفسها لإلتقاط كل ما يهم الخضر من أخبار فقد التقطت أذنيها تفاصيل هذه المؤامرة التي يحِكها العمدة وزبانيته.
فأتت الخضر ليلاً تركض ، وأبلغته أن القوم يأتمرون به ليقتلوه، وأشارت إليه أن أسري بقطع من الليل ولا تلتفت، إنصاع الخضر لتوجيهات فاطمة وخوفها عليها، وحين هم بالهروب، أفلتت من يدِها بعض الأسورة الذهبية، وأخفتها له في ثوبه، ووقفت تذرف الدموع وهي ترقبه مغادراً الساقية، فسألته :”ســــترجع؟، خطى الخضر وإبتعد بضع خطوات، ولكنه عاد نحو فاطمة ونظر إليها وقال: ” كيف تجدين صوتي؟” فردت عليه : ” أجده من أعذب الأصوات” ، وأردفت قائلة: “صوت العمدة أجش ولكنه ملئ بالقذراة ، صوتك رقيق لكنه ملئ بالنبل”، هذه الشحنة التي أطلقتها فاطمة من سويداء قلبها ، منحته مواداً صالحة من الأمل، لترميم ما
تهدم من بنائه.

إندفع الخضر في طريقه لا يلتفت لشئ، إجتاز قرية وراء أخرى، ليصل به المسير إلى كبرى المدن، فدخلها وإحساس رائع بالفتح الجديد ينتابه، فقرر أن يخاطب أهلها ( بلغة الإشارة ) إلى حين.. ( لشئ في نفسه يخفيه).

About Author

 للإنضمام الي إحدي مجموعاتنا علي الواتس اب اضغط علي الروابط

صحيفة السياسي (1)

صحيفة السياسي (2)

صحيفة السياسي (3)

صحيفة السياسي (4)

صحيفة السياسي (5)