متين أشوف الخرطوم..(1)
بقلم :حامد النصيح
تتقاذف الاشواق وتتوق الأرواح للعودة لربوع الديار، تلكم الديار الشجاعة من اقصى دافور حتى تخوم الخرطوم والتي صمدت صموداً لا يدانيه إلا صمود الشام وبغداد آبان غزو التتار الذين أذاقوها الامرين، ونكلوا بأهلها اشد ما يكون التنكيل حتى فاضت شوارعها دماً، واسود نهرها من كثيرة ما القي فيه من كتب قد ذاب مدادها.
وها الآن التاريخ يعيد نفسه، فيختار ربوع السودان بأجمل ما فيه من مدن وقرى ويكرر نفسه وكأنه يبحث عن تشابه الجغرافيا الذي يجمع بين طبيعة البلدين فاذا كان للشام والعراق فرات ودجلة، فلنا النيلين أزرقه لانعكاس زرقة سماءه الصحو، والأبيض كبياض ضمير أهله ونقاءه، يا من أسرتما قلمي فأضحى يتغزل فيكما وقد نسى ما حوله من مأساة قد استل سيفه لتسجيلها وتوثيقها، كما أن مواطن الخرطوم الآن برغم كل ما حدث طفق يتغزل في جمال مدينته (عروسة المدائن وحاضرة السودان)، النازح منهم اصبح يغني للعودة وقد استشعر بشائرها .. حيث عانقت اذنه زغاريد حواري امدرمان وهي فرحة بتحرير ازقتها وحاراتها، وتتراقص أعمدة أسواقها طرباً لهذا القادم من أعماق الملاحم، رافعاً عقيرته بالتنادي للعودة من تحت صليل السيوف وقعقعة الرماح وصهيل الخيول الطرب وهي تحمل جحافل التحرير وارواح الشهداء، فما اجمل انبلاج الصبح بإشراقه الوضاء الذي يبشر بفجر جديد من العزة والشموخ والإباء، والعيون ما طفقت ترنو لمستقبل زاهر تحفه الأمجاد والمفاخر.
رصدنا كثير من المشاعر يحملها الضاربون في اصقاع الأرض نزوحاً وصموداً، كيف لا وهم سليلة من علموا (الجبل الثبات)، مارسوا حياتهم في امكان نزوحهم بكل إيمان وانشراح غير مبالين بما اصابهم من محن وأحن، ولعمرك هذه صفات لا يشاركهم فيها إلا أهل غزة العزة.. تنهال المصائب لتختبر صبرهم وجلدهم فترتد فرحة بما اصبحوا فيه من صفات لا تدانيها إلا صفات الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، نحسبهم تأسوا بها ووضعوها نصب اعينهم فأنارت ظلمة محنتهم واشعلت شمعات الأمل وثقاب الإيمان في دواخلهم، فأنزل الله سكينته فكانوا أهلها واحق بها فما اشبه الليلة بالباحة، القرآن يصور لنا ما نحن فيه الآن حيث يقول الخالق عز وجل في محكم تنزيله: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما)..من يقاتل حمية لنصرة عرق او قبيلة او شخص ومن يقاتل لدرأً مفسدة أو رد مظلمة أو إحقاق حق، ما اعظم واروع حقوق الوطن والمواطن وهي مصونة.. قد غيض الله من يحميها ويحفظها، ويقطع دابر الفساد ويقمع من أراد هدم الدولة وترويع المواطن وسلب حقوقه، نرفع القبعات عالية لمن نهج هذا النهج فصمد وضحى بالغالي والنفيس، علي إثر ذلك ثبت بنيان الدولة بعد ان ترنح وكاد يسقط إزاء هبوب رياح الغدر وأمام جحافل تحالف الشر، وما حدث من رد تلك الرياح العاتية وكبح الهجمة الشرسة والوقوف في وجهها، ليس ذلك بفضل كثرة عدد وعتاد إعددناه ولا بسبب فزعة اخ او صديق استنجدى به، انما كان ذلك هو معجزة سخرها الله للسودان وأهله، وإلا فكيف تصمد فئة قليلة غير مجهزة من عسكر المكاتب والحراسات الرمزية في وجه ذلك التكالب المحلي والدولي والآلة الحربية المدمرة، فيا سادتي انها المعجزة والهبة الإلهة التي قيضها الله وسخرها من لدنه لهذا الشعب الطيب المسالم الذي كادت تلك الاحداث ان تذهب بريحه، حين أخذ على حين غرة، فإنتهكت حرماته وسلبت أمواله وأحتلت دوره ومرافقه الحيوية ودك القائم منها لا فرق بين مستشفى او مدرسة ، بنك او وزارة او دار عجزة وأطفال ومسنين، ويسطى على اسواقه وجردت متاجره مما فيها من بضائع وودائع.
علينا ان نعي ونستوعب هذه الهبة ونحمد الله على هذه المنحة المباركة، فقد كان لا طاقة لنا بها ولا مقدرة لنا امام من جهز نفسه بتلك الآلة الحربية الضخمة واستقدم الجند من كل حدب وصوب للاستحواذ على الدولة ومقدراتها وقرر إفراغ البلاد من مواطنيه بطردهم وتهجيرهم حتى تخلو له الديار والعمار، فيدخلها غازياً كأسوأ ما يكون الغزو، فقد كانوا لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة..
يتبع/..
About Author
للإنضمام الي إحدي مجموعاتنا علي الواتس اب اضغط علي الروابط