العبور إلى الشاطيء الآخر
( هذي رؤاي)
عبد العزيز عبد الوهاب
وجدتها سانحة عظيمة لأعيد فيها قراءة تفاصيل الرحلة الشاقة والعصيبة التي عاشها ابن خالي وابن عمي في آن ، الخبير الإقتصادي الدولي المعروف خوجلي عبد الرحيم (على قبره شآبيب الرحمات تهمي) فجده لأبيه أبوبكر ( الناظر) وجدي لأمي( عمر) وجدتي لأبي فاطمة (السمحة ) أشقاء من رحم واحد .
رحلة عبَر خلالها كاتبها بنورانية الروح وشفافيتها من شاطيء الحياة بزخمها وتضاريسها وأوجاعها إلى شاطئ آخر سبح خلاله في ملكوت الله وكونه الفسيح ببهاء وصفاء لا سقف له .
بينما سكن البدن واستسلم ببرود ويقين لما يمكن أن يصيبه ، يقين لم يترنح أو يتزحزح لطالما ردد صاحبه قوله تعالى ( قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا)
أما مناسبة عودتي فترجع لحالة الشبه التي قبض فيها الكاتب قبضة من أثر غابراييل غارثيا ماركيز صاحب ( مائة عام من العزلة) فخرج لنا بهذا (العبور) الباذخ الماتع الشاد والجاذب .
وذلك في الحرب التي وقعت في عدن عاصمة اليمن الجنوبي التي زارهاخوجلي خلال الفترة من 11/1/ 1986حتى الثامن عشر من الشهر نفسه ، ولاقى فيها كل ما يمت للموت بصلة ، و التي تحاكي تفاصيلها الحرب التي تعيش اليوم الخرطوم تحت أزيز طائراتها ومدافعها التي ترتج لها القلوب .
وراق لي أن أنقل هنا ما إقتطفته من صفحات الكتاب ، ما يمكن أن يسعف البعض ويزيد من اتساع أفقه حول الظروف المصاحبة للحرب وما تؤول إليه .
- إذا كنت أعزلاً لا تسأل مسلحا عن الطريق ..لأن السؤال سيتطور إلى حوار تكون أنت فيه على خطأ في كل الحالات .
-
في اليمن لا تحتاج إلى ترخيص لحمل السلاح ولكن ربما تحتاج إلى ترخيص لعدم سلاح .. (فهل سيصل السودان لوضع كهذا ؟)
-
عندما اشتعلت الحرب في عدن ، كانت ثلاث إذاعات عربية تتبادل السباب بين أنظمتها ورابعة تبث حديثا عن اختلاف العلماء في نواقض الوضوء .. فوضعت المذياع جانبا .
-
وقعت قذيفة داخل غرفتي بفندق عدن فأيقنت أن ساعة الرحيل قد حانت .. وتذكرت وداع أمي لي بعد أن أخذت التراب من تحت قدمي وسألت الله أن يحفظني من الحرق والغرق .
-
تحررت روحي من بدني وتذكرت الأموات جدي الناظر وأبي وعمي إسماعيل الذين رحبوا بي وحمدوا الله على ( سلامتي) فسألت نفسي : هل تكون السلامة مع الأحياء أم في الرحيل عنهم؟
- كنا 96 نزيلا بالفندق الذي أصبح هدفا رئيسا للنيران ، فاقترحت تكوين لجنة من ثلاثة أشخاص ، ضمت بريطاني وفرنسي وشخصي لإدارة أزمة وجودنا واختاروني رئيسا .
-
أعددت قائمة بأسماء النزلاء وعناوينهم الدائمة ووظائفهم هنا وطلبت من الجميع المحافظة على الماء والطعام وأن يتم صرفهما بقرار من اللجنة .
-
سمعنا أن القذافي سيرسل قوة للفصل بين المتصارعين فانتفضت سيدة فرنسية نصف باكية وقالت : كل شيء ولا.. القذافي .. ( فما يقول أهل السودان اليوم ؟)
-
علمتني خبرة التفاوض قصر المواجهة على شخص واحد وعدم الاستجابة للمداخلات والملاحظات الجانبية.
- حرصت على أن أكون آخر من يأكل من النزلاء ، ففي العام
1962 كنت قد أضربت عن الطعام لمدة 11 يوما مع عدد من زملائي ، ومن يومها أدركت أننا نأكل أكثر بكثير مما تتطلبه حاجة الجسد .
- في المواقف الصعبة يكون الإنسان أمام خياران لا ثالث لهما : إما يتجمر الذهب أو يذوب الصفيح.
-
رفضت أن ألجأ إلى السفارة البريطانية لأن شيئا سودانيا في داخلي يمنعني من ذلك ، ورأيت أن اللجوء يمثل سوء الخاتمة في أوضح معانيه ، وألمس فيه عارا لا أستطيع أن أقبله حيا أو أن أتحمله ميتا .. ( مهداة لثوار السفارات)
-
إن السلاح يضع على حامله عبئا نفسيا ثقيلا ينعكس في تصرفه الذي سيكون سليما حال توفر لديه التوازن النفسي والوجداني الذاتي .
-
فاجأني طفل مصري / فرنسي عندما سألني : هم الجماعة ديل مختلفين على إيه ياعمو ؟.. طيب افرض إنهم مختلفين ..موش أحسن يقعدوا يتكلموا مع بعض ؟
-
تصورت بعض مما يمكن أن يحدث في ( فراش العزاء ) الذي سيقام لي ومن ذلك :
_ أن يطلب قريب لي انتهازي من أحد أصدقائي الذي تبلل الدموع ثيابه ، مساعدته= بطلب مني أنا المرحوم= لتسجيل قطعة أرض بإسمه بعد تطور النزاع حولها مع آخرين .. فوافق الصديق فورا ..فشكره الانتهازي وتركه إلى صديق آخر ليقضي له مصلحة أخرى !!
_ حضر أشخاص للعزاء لا علاقة لي ولا أهلي بهم ولا يعرفهم أحد ، جلسوا وتسامروا واغتابوا وأكلوا وشربوا، مما يكرس للزمن المهدور ولغو الحديث والاتكال الاستهلاكي .
- طوال غربتي كان الهاجس الوحيد الذي يؤرقني هو الموت بعيدا عن الوطن . لم أخش الموت فقد نشأت حريصا عليه وكان أبي يذكرني بأننا كلنا هالك ابن هالك وإن طال ببعضنا المقام .
- في كل هدنة ينطلق الرصاص ، لأن كل طرف يعتبرها خدعة حرب ، ويحاول الاستفادة من الهدنة لتعزيز مواقعه استعدادا لضربة قاضية .
-
في زمن الحرب لا تلجأ لمن يعيش وضعا نفسيا مضطربا حتى ولو كان طبيبا فربما ينعكس ذلك على حكمه على الأمور .
-
قررنا إجلاء النساء والأطفال من الفندق بواسطة السفارة الروسية ، فجاءني اللبناني روبير وقال : ضروري أسافر إلى لندن لغرض مهم .. لكنه تراجع عندما سمع الطفل المصري / الفرنسي أمين يخاطبني : رايك شنو ياعمو أسيب أمل أختي ( ست سنوات) تروح مع الستات وانتظر أنا مع الرجالة . وقف شعر رأسي .. سلمت وبوركت يا أمين وبورك فيك ماء السين وطين النيل.
-
سيدة بلجيكية واحدة بقيت معنا تزوجت قبل أشهر وفضلت أن تحيا أو تموت مع زوجها .
- مع بزوغ فجر الأحد 19/1/1986 وصلتُ مع بقية النزلاء إلى جيبوتي عبر اليخت الملكي بريتانيا الذي دشن ليكون مقرا للملكة وعائلتها.
-
سألني أحدهم وأنا رث الثياب وبشعر منكوش إن كنت أحتاج لمساعدة فطلبت منه أن يوصلني إلى فندق شيراتون جيبوتي ، وعندما وقفت أمام الاستقبال رمقني الموظف بإستهزاء ، وقال لي : هل أنت متأكد أنك تطلب النزول في شيراتون ..تمالكت نفسي ووجدت له العذر .. لكنه عاد و قال إنه لن يستطيع التعامل معي ولابد أن يوقظ نائب المدير …
-
خاطبته بحزم وطلبت منه أن يستجيب لطلبي فورا ..فاستجاب بدون تردد .
-
اتصلت بزوجتي بالكويت والتي ترواحت غير مصدقة بين بكاء وتماسك ، ثم اتصلت بأخ كريم ضرب أروع الأمثال في الوفاء وقام ببعض الإجراءات منها :
_ اتصل بي مدير الفندق وقال إن شيراتون الكويت سيتكفل بجميع مصاريف إقامتي ، وأن ندفع لك أي مبالغ تطلبها ، وهناك جناح رئاسي بالفندق يمكنني الإنتقال إليه
_ اتصلت بي الخطوط الفرنسية وقالت إنها ستقوم بتسفيري إلى وجهة أطلبها .
_ وصلتني تأشيرة دخول إلى السعودية من البنك الإسلامي للمرور عبر مدينة جدة في طريقي إلى الكويت حيث أعمل .
*** آخر وظيفة تقلدها المؤلف كانت في الهيئة العربية لضمان الاستثمار بالكويت
*** توفي لرحمة مولاه بالكويت ووري الثرى بمقابر حلفاية الملوك يوم 2/8/2004 م .
About Author
للإنضمام الي إحدي مجموعاتنا علي الواتس اب اضغط علي الروابط